فصل: فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.بَابُ زَكَاةِ الْمَالِ:

.فَصْلٌ فِي الْفِضَّةِ:

(لَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَةٌ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا (فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ) «لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَتَبَ إلَى مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ خُذْ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنْ كُلِّ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ نِصْفَ مِثْقَالٍ». قَالَ: (وَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيَكُونُ فِيهَا دِرْهَمٌ ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: مَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَزَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ، وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ عَلِيِّ «وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِهِ» وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ، وَاشْتِرَاطُ النِّصَابِ فِي الِابْتِدَاءِ لَتَحَقُّق الْغِنَى وَبَعْدَ النِّصَابِ فِي السَّوَائِمِ تَحَرُّزًا عَنْ التَّشْقِيصِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ «لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا» وَقولهُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْم: «وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ» وَلِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ، وَفِي إيجَابِ الْكُسُورِ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدَّرَاهِمِ وَزْنُ سَبْعَةٍ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ مِنْهَا وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، بِذَلِكَ جَرَى التَّقْدِيرُ فِي دِيوَانِ عُمَرَ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ (وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْوَرِقِ الْفِضَّةَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْفِضَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْغِشُّ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْعُرُوضِ يُعْتَبَرُ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ نِصَابًا) لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ لِأَنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ إلَّا بِهِ وَتَخْلُو عَنْ الْكَثِيرِ، فَجَعَلْنَا الْغَلَبَةَ فَاصِلَةً وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى النِّصْفِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي الصَّرْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، إلَّا أَنَّ فِي غَالِبِ الْغِشِّ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ التِّجَارَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُرُوضِ، إلَّا إذَا كَانَ تَخْلُصُ مِنْهَا فِضَّةٌ تَبْلُغُ نِصَابًا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي عَيْنِ الْفِضَّةِ الْقِيمَةُ وَلَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ.
الشَّرْحُ:
بَابُ: (زَكَاةِ الْمَالِ):
مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا زَكَاةُ مَالٍ إلَّا أَنَّ فِي عُرْفِنَا يَتَبَادَرُ مِنْ اسْمِ الْمَالِ النَّقْدُ وَالْعُرُوضُ، وَقَدَّمَ الْفِضَّةَ عَلَى الذَّهَبِ اقْتِدَاءً بِكُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولهُ: (لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ») أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» وَأَخْرَجَهُ مُسلم: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ» الْحَدِيثَ. وَقولهُ وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَخْذًا مِنْ تَقْدِيرِ أَصْدِقَةِ أَزْوَاجِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَتْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا فَتِلْكَ خَمْسُمِائَةٍ، قَالَ أَبُو مَسْلَمَةَ: قُلْت مَا النَّشُّ؟ قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَهُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِيثِ، وَشَاهِدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْفِضَّةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَ أَوَاقٍ وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا» مُخْتَصَرٌ وَفِيهِ يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ الرَّهَاوِيُّ أَبُو فَرْوَةَ: ضُعِّفَ، وَالْأُوقِيَّةُ أُفْعُولَةٌ فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ زَائِدَةً، وَهِيَ مِنْ الْوِقَايَةِ لِأَنَّهَا تَقِي صَاحِبَهَا الْحَاجَةَ. وَقِيلَ هِيَ فَعِيلَةٌ فَالْهَمْزَةُ أَصْلِيَّةٌ وَهِيَ مِنْ الْأَوْقِ وَهُوَ الثِّقَلُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ إلَّا الْأَوَّلَ قَالَ: وَهَمْزَتُهَا زَائِدَةٌ وَيُشَدَّدُ الْجَمْعُ وَيُخَفَّفُ مِثْلُ أُثْفِيَّةٍ وَأَثَافِيَّ وَأَثَافٍ، وَرُبَّمَا يَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ وَقِيَّةٌ وَلَيْسَتْ بِالْعَالِيَةِ.
قولهُ: (فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَخْ) سَوَاءٌ كَانَتْ مَصْكُوكَةً أَوْ لَا، وَكَذَا عَشَرَةُ الْمَهْرِ، وَفِي غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ مَا لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ نِصَابًا مَصْكُوكًا مِنْ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ لُزُومَهَا مَبْنِيٌّ عَلَى التَّقَوُّمِ، وَالْعُرْفُ أَنْ يُقَوَّمَ بِالْمَصْكُوكِ، وَكَذَا نِصَابُ السَّرِقَةِ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ.
قولهُ: (كَتَبَ إلَى مُعَاذٍ) اللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ، وَإِنَّمَا فِي الدَّارَقُطْنِيِّ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا، وَمِنْ كُلٍّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ مَعْلُولٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَبِيبٍ، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِالْمُدَّعِي فَإِنَّ أَحَادِيثَ أَخْذِ رُبْعِ الْعُشْرِ مِنْ الرِّقَةِ مُفَسِّرَةٌ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ.
قولهُ: (فَزَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ) فَفِي الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَمِمَّا يُبْنَى عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَانِ وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ مَضَى عَلَيْهَا عَامَانِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ وَعِنْدَهُمَا خَمْسَةٌ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ خَمْسَةٌ وَثُمُنٌ فَيَبْقَى السَّالِمُ مِنْ الدَّيْنِ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِائَتَانِ إلَّا ثُمُنَ دِرْهَمٍ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَعِنْدَهُ لَا زَكَاةَ فِي الْكُسُورِ فَيَبْقَى السَّالِمُ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةٌ أُخْرَى.
قولهُ: (فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ) تَقَدَّمَ حَدِيثُهُ فِي زَكَاةِ الْعَوَامِلِ وَالْحَوَامِلِ وَفِي أَوَّلِ كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَوْلِ.
قولهُ: (وَبَعْدَ النِّصَابِ فِي السَّوَائِمِ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّهُ قَدْ عُفِيَ بَعْدَ النِّصَابِ فِي السَّوَائِمِ أَعْدَادٌ فَقَالَ ذَلِكَ فِيهَا تَحَرُّزًا عَنْ التَّشْقِيصِ، أَيْ إيجَابِ الشِّقْصِ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ عَلَى الْمُلَّاكِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ هُنَا.
قولهُ: (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ) رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُعَاذٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا» وَهُوَ ضَعِيفٌ بِالْمِنْهَالِ بْنِ الْجَرَّاحِ. وَأَمَّا مَا نَسَبَهُ الْمُصَنِّفُ إلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ: رَوَى أَبُو أُوَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدِ ابْنَيْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ جَدِّهِمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَتَبَ هَذَا الْكِتَابَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْحَدِيثَ، وَذَكَرَ فِي الْفِضَّةِ فِيه: «لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ» وَلَمْ يَعْزُهُ عَبْدُ الْحَقِّ لِكِتَابٍ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِهِ، وَالْمَوْجُودُ فِي كِتَابِ ابْنِ حَزْمٍ عِنْدَ النَّسَائِيّ وَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِم: «وَفِي كُلِّ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ» وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: فَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ. وَتَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُصَحَّحِ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ». فَقولهُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ خَرَجَ تَفْسِيرًا لِقولهِ هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ فَيُفِيدُ هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ الْمَفْعُولِ فَتَكُونُ قَيْدًا فِي عَامِلِهِ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ بِالْإِعْطَاءِ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: قُصَارَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلنَّفْيِ عَمَّا دُونَهَا إلَّا بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ عِنْدَنَا أَوْ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ مُتَعَرِّضٌ لِإِيجَابِهِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ الْمَفْهُومُ كَانَ الْمَنْطُوقُ مُقَدَّمًا عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ، خُصُوصًا وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ. فَالْأَوْلَى حِينَئِذٍ إثْبَاتُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَأَثَرِ عُمَرَ فَإِنَّهُمَا يُفِيدَانِ أَنَّ تَمَامَ حُكْمِ مَا زَادَ أَنْ يَجِبَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ فَلَا يَكُونُ مِنْ حُكْمِ مَا زَادَ خِلَافُ ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بَيَانًا لِحُكْمِ مَا زَادَ بَلْ لِبَعْضِهِ فَإِنْ قِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى إرَادَةِ مَا زَادَ مِنْ الْأَرْبَعِينَاتِ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ. قُلْنَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ مِثْلِهِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ بِأَنْ يُحْمَلَ مَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ: أَيْ مَا زَادَ مِنْ الْأَرْبَعِينَاتِ فَبِحِسَابِ الْخَمْسَةِ فِي الْمِائَتَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا دِرْهَمٌ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ الْحَمْلُ فِي مُعَارِضِ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَوْلَى مِنْهُ فِيهِ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ وَذَلِكَ مُسْقِطٌ فَيَكُونُ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ، وَظَنُّ أَنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ نَهْيٌ فَيُقَدَّمُ غَلَطٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَهْيُ الْمُصَدِّقِ، وَكَلَامُنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ أَنْ يُعْطِيَ بَلْ الْوَاقِعُ فِي حَقِّهِ تَعَارُضُ السُّقُوطِ وَالْوُجُوبِ. قُلْنَا: ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَلْزُومًا لِلْحَرَجِ الْعَظِيمِ وَالتَّعَذُّرِ فِي بَعْضِهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ وَهُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَسَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَجَبَ عَلَيْهِ عَلَى قولهِمَا خَمْسَةٌ وَسَبْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى جَاءَتْ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٍ وَزَكَاةَ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ، وَلِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِقِيَاسِ الزَّكَوَاتِ لِأَنَّهَا تَدُورُ بِعَفْوٍ وَنِصَابٍ.
قولهُ: (وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدِّرْهَمِ إلَخْ) هَذَا الِاعْتِبَارُ فِي الزَّكَاةِ وَنِصَابِ الصَّدَقَةِ وَالْمَهْرِ وَتَقْدِيرِ الدِّيَاتِ، وَإِذْ قَدْ أُخِذَ الْمِثْقَالُ فِي تَعْرِيفِ الدِّرْهَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّظَرِ فِيهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي صَدَقَةِ الذَّهَبِ أَنَّهُ مَعْرُوفٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ وَلَمْ يَزَلْ الْمِثْقَالُ فِي آبَادِ الدَّهْرِ مَحْدُودًا لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ. وَكَلَامُ السَّجَاوَنْدِيِّ فِي كِتَابِ قِسْمَةِ التَّرِكَاتِ خِلَافُهُ، قَالَ الدِّينَارُ: بِسَنْجَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ عِشْرُونَ قِيرَاطًا وَالْقِيرَاطُ خَمْسَةُ شَعِيرَاتٍ، فَالدِّينَارُ عِنْدَهُمْ مِائَةُ شَعِيرَةٍ وَعِنْدَ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ شَعِيرَةً، فَيَكُونُ الْقِيرَاطُ عِنْدَهُمْ طَسُّوجًا وَخُمُسَهُ. وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا فِي تَحْدِيدِ الدِّينَارِ مُطْلَقًا فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الدِّينَارَ سِتَّةُ دَوَانِيقَ وَالدَّانِقُ أَرْبَعُ طَسُّوجَاتٍ وَالطَّسُّوجُ حَبَّتَانِ وَالْحَبَّةُ شَعِيرَتَانِ وَالشَّعِيرَةُ سِتَّةُ خَرَادِلَ وَالْخَرْدَلَةُ اثْنَا عَشَرَ فَلْسًا وَالْفَلْسُ سِتُّ فَتِيلَاتٍ وَالْفَتِيلُ سِتُّ نَقِيرَاتٍ وَالنَّقِيرُ ثَمَانُ قِطْمِيرَاتٍ وَالْقِطْمِيرَةُ اثْنَتَا عَشْرَةَ ذَرَّةً انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْخَرَادِلِ أَوْ الشَّعِيرَةِ الْمَعْرُوفُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاشْتِغَالِ بِتَقْدِيرِ ذَلِكَ وَهُوَ تَعْرِيفُ الدِّينَارِ عَلَى عُرْفِ سَمَرْقَنْدَ، وَتَعْرِيفُ دِينَارِ الْحِجَازِ هُوَ الْمَقْصُودُ إذْ الْحُكْمُ خَرَجَ مِنْ هُنَاكَ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ» لَفْظُ النَّسَائِيّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ وَوَثَّقَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ لَهُمْ فِيهِ اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ فَلَمْ يَحْصُلْ مِمَّا ذَكَرَهُ تَحْدِيدٌ وَلَا تَمْيِيزٌ عِنْدَ الْعَقْلِ لِأَنَّ الذَّرَّةَ حِينَئِذٍ هِيَ مَبْدَأُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتُ الِاصْطِلَاحِيَّةُ وَلَا يُعْرَفُ شَخْصُهَا، وَقَدْ لَا يُقَدَّرُ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِهَا لَوْ عُرِفَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَقْدِيرُ كَمِّيَّةِ شَيْءٍ مَوْجُودٍ ثَابِتٍ، وَالتَّوَصُّلُ إلَى ذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِذَلِكَ مَقْصُودٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ اقْتَصَرَ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ فِي إفَادَةِ التَّقْدِيرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْوَسَطَ بَيْنَ الشَّعِيرَاتِ الْمَعْرُوفَةِ وَإِلَّا يَكُونُ تَجْهِيلًا وَلَوْ انْتَهَى إلَى الْخَرْدَلِ كَانَ حَسَنًا إذْ لَا يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ وَكَذَا بَعْضُ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الدِّينَارِ وَالْمِثْقَالِ مُتَرَادِفَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمِثْقَالَ اسْمٌ لِلْمِقْدَارِ الْمُقَدَّرِ بِهِ وَالدِّينَارُ اسْمٌ لِلْمُقَدَّرِ بِهِ بِقَيْدِ ذَهَبِيَّتِهِ، وَإِذْ قَدْ عَرَفْت هَذَا فَقَالُوا: كَانَتْ الدَّرَاهِمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ كُلُّ عَشَرَةٍ وَزْنُ عَشَرَةِ مَثَاقِيلَ، وَصِنْفٌ كُلِّ عَشَرَةٍ وَزْنُ خَمْسَةٍ، وَصِنْفٌ كُلُّ عَشَرَةٍ بِوَزْنِ سِتَّةٍ، فَلَمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ، وَقِيلَ أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْخَرَاجَ بِالصِّنْفِ الْأَوَّلِ فَالْتَمَسُوا التَّخْفِيفَ، فَجَمَعَ حِسَابَ زَمَانِهِ فَأَخْرَجُوا عَشَرَةً وَزْنَ سَبْعَةٍ وَقِيلَ أَخَذَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ دِرْهَمًا فَخَلَطَهُ فَجَعَلَهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ مُتَسَاوِيَةً فَخَرَجَ الدِّرْهَمُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا كُلُّ عَشَرَةٍ وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ فَبَقِيَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَيْهَا، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ كَوْنَ الدَّرَاهِمِ بِهَذِهِ الزِّنَةِ لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَقْدِيرِهِ لَهَا وَاقْتِضَاءِ عُمَّالِهِ إيَّاهَا خَمْسَةً مِنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْمُعَيَّنُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي زَمَانِهِ الصِّنْفَ الْأَعْلَى لَمْ يَجُزْ النَّقْصُ، وَإِنْ كَانَ مَا دُونَهُ لَمْ يَجُزْ تَعْيِينُ هَذِهِ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْمُقَدَّرِ تُوجِبُ نَفْيَ الْوُجُوبِ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يَتَحَقَّقُ فِي مِائَتَيْنِ وَزْنُ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ، فَالْقول بِعَدَمِ الْوُجُوبِ مَا لَمْ تَبْلُغْ وَزْنُ مِائَتَيْنِ وَزْنَ سَبْعَةٍ مَلْزُومٌ لِمَا ذَكَرْنَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ أَنَّ أَيُّهَا وُجِدَ كَانُوا يُزَكُّونَهُ قَالَ: كَانَتْ الدَّرَاهِمُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كِبَارًا وَصِغَارًا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَرَادُوا ضَرْبَ الدَّرَاهِمِ وَكَانُوا يُزَكُّونَهَا مِنْ النَّوْعَيْنِ فَنَظَرُوا إلَى الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ فَإِذَا هُوَ ثَمَانِيَةُ دَوَانِيقَ وَإِلَى الدِّرْهَمِ الصَّغِيرِ فَإِذَا هُوَ أَرْبَعَةُ دَوَانِيقَ، فَوَضَعُوا زِيَادَةَ الْكَبِيرِ عَلَى نُقْصَانِ الصَّغِيرِ فَجَعَلُوهَا دِرْهَمَيْنِ سَوَاءً كُلُّ وَاحِدٍ سِتَّةُ دَوَانِيقَ، ثُمَّ اُعْتُبِرُوهَا بِالْمَثَاقِيلِ، وَلَمْ يَزَلْ الْمِثْقَالُ فِي آبَادِ الدَّهْرِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَوَجَدُوهَا عَشَرَةً مِنْ هَذِهِ وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ انْتَهَى. وَإِنَّمَا سُقْنَا بَقِيَّةَ كَلَامِهِ لِيَظْهَرَ مَا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِمَا تَقَدَّمَ وَيَقْتَضِي أَنَّ النِّصَابَ يَنْعَقِدُ مِنْ الصِّغَارِ، وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَفَاوُتِ الدَّرَاهِمِ صِغَرًا وَكِبَرًا فِي زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبِالضَّرُورَةِ تَكُونُ الْأُوقِيَّةُ مُخْتَلِفَةً أَيْضًا بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَقَدْ «أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خَمْسِ أَوَاقٍ الزَّكَاة» مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِصِنْفِ، فَإِذَا صَدَقَ عَلَى الصَّغِيرَةِ خَمْسُ أَوَاقٍ وَجَبَ فِيهَا الزَّكَاةُ بِالنَّصِّ، وَيُؤَيِّدُهُ نَقْلُ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يُزَكُّونَ النَّوْعَيْنِ، وَعَنْ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ كُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ دَرَاهِمُهُمْ. ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ، إلَّا أَنِّي أَقول: يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِمَا إذَا كَانَتْ دَرَاهِمُهُمْ لَا تَنْقُصُ عَنْ أَقَلِّ مَا كَانَ وَزْنًا فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهِيَ مَا تَكُونُ الْعَشَرَةُ وَزْنَ خَمْسَةٍ لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا قُدِّرَ النِّصَابُ بِمِائَتَيْنِ مِنْهَا حَتَّى لَا تَجِبَ فِي مِائَتَيْ مِنْ الدَّرَاهِمِ الْمَسْعُودِيَّةِ الْكَائِنَةِ بِمَكَّةَ مَثَلًا وَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ قَوْمٍ، وَكَأَنَّهُ أَعْمَلَ إطْلَاقَ الدَّرَاهِمِ وَالْأَوَاقِي فِي الْمَوْجُودِ وَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ وَيُسْتَحْدَثَ، وَنَحْنُ أَعْمَلْنَاهُ فِي الْمَوْجُودِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْكَلَامِ إلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ الثَّابِتُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَرَاهِمُ إلَّا كَبِيرَةٌ كَوَزْنِ سَبْعَةٍ فَالِاحْتِيَاطُ عَلَى هَذَا أَنْ تُزَكَّى، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ إذَا بَلَغَ ذَلِكَ الْأَقَلُّ قَدْرَ نِصَابٍ هُوَ وَزْنُ خَمْسَةٍ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ الدَّرَاهِمُ إلَّا وَزْنَ عَشْرَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِمَّا يَزِيدُ عَلَى وَزْنِ سَبْعَةٍ وَجَبَ الزَّكَاةُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ مِنْهَا بِحِسَابِ وَزْنِ السَّبْعَةِ. وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْغَايَةِ: دَرَاهِمُ مِصْرَ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ حَبَّةً، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ دِرْهَمِ الزَّكَاةِ فَالنِّصَابُ مِنْهُ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ وَحَبَّتَانِ انْتَهَى. فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ دِرْهَمَ الزَّكَاةِ مُقَدَّرٌ شَرْعًا بِمَا هُوَ وَزْنُ سَبْعَةٍ بَلْ بِأَقَلَّ مِنْهُ لِمَا قُلْنَا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْأَقَلُّ فِي الدَّرَاهِمِ الْكَبِيرَةِ فَتُزَكَّى إذَا بَلَغَتْ قَدْرَ مِائَتَيْنِ مِنْ الصِّغَارِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ مَا ذُكِرَ فِي الْغَايَةِ مِنْ دَرَاهِمِ مِصْرَ فِيهِ نَظَرٌ عَلَى مَا اعْتَبَرُوهُ فِي دِرْهَمِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْحَبَّةِ الشَّعِيرَةَ فَدِرْهَمُ الزَّكَاةِ سَبْعُونَ شَعِيرَةً إذْ كَانَ الْعَشَرَةُ وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، وَالْمِثْقَالُ مِائَةَ شَعِيرَةٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فَهُوَ إذًا أَصْغَرُ لَا أَكْبَرُ وَإِنْ أَرَادَ بِالْحَبَّةِ أَنَّهُ شَعِيرَتَانِ كَمَا وَقَعَ تَفْسِيرُهَا فِي تَعْرِيفِ السَّجَاوَنْدِيِّ الطَّوِيلِ فَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ، إذْ الْوَاقِعُ أَنَّ دِرْهَمَ مِصْرَ لَا يَزِيدُ عَلَى أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ شَعِيرَةً لِأَنَّ كُلَّ رُبْعٍ مِنْهُ مُقَدَّرٌ بِأَرْبَعِ خَرَانِيبَ وَالْخُرْنُوبَةُ مُقَدَّرَةٌ بِأَرْبَعِ قَمْحَاتٍ وَسَطٍ.
قولهُ: (فَهُوَ فِضَّةٌ) أَيْ فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَأَنَّهُ كُلَّهُ فِضَّةٌ لَا زَكَاةَ الْعُرُوضِ وَلَوْ كَانَ أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْغِشُّ غَالِبًا، فَإِنْ نَوَاهَا لِلتِّجَارَةِ اُعْتُبِرَتْ قِيمَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ يَتَخَلَّصُ مِنْهَا فِضَّةً تَبْلُغُ نِصَابًا وَحْدَهَا أَوْ لَا تَبْلُغُ، لَكِنْ عِنْدَهُ مَا يَضُمُّهُ إلَيْهَا فَيَبْلُغُ نِصَابًا وَجَبَ فِيهَا لِأَنَّ عَيْنَ النَّقْدَيْنِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ وَلَا الْقِيمَةُ، وَإِنْ لَمْ يَخْلُصْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْفِضَّةَ هَلَكَتْ فِيهِ، إذْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهَا لَا حَالًا وَلَا مَآلًا فَبَقِيَ الْعِبْرَةُ لِلْغِشِّ. وَهِيَ عُرُوضٌ يُشْتَرَطُ فِي الْوُجُوبِ فِيهَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الذَّهَبُ الْمَغْشُوشُ. وَإِذَا اسْتَوَى الْغِشُّ فِيهِمَا قِيلَ تَجِبُ فِيهِ احْتِيَاطًا وَقِيلَ لَا تَجِبُ وَقِيلَ يَجِبُ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ. كَذَا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقول الْوُجُوبِ أَنَّهُ تَجِبُ فِي الْكُلِّ الزَّكَاةُ. فَفِي مِائَتَيْنِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ كَأَنَّهَا كُلَّهَا فِضَّةٌ. أَلَا تَرَى إلَى تَعْلِيلِهِ بِالِاحْتِيَاطِ، وَقول النَّفْيِ مَعْنَاهُ لَا تَجِبُ كَذَلِكَ. وَالْقول الثَّالِثُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنْ يَخْلُصَ وَعِنْدَهُ مَا يَضُمُّهُ إلَيْهِ فَيَخُصُّهُ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ. وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا قولانِ؛ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ. فَحِكَايَةُ ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ غَيْرُ وَاقِعٍ. وَالذَّهَبُ الْمَخْلُوطُ بِالْفِضَّةِ إنْ بَلَغَ الذَّهَبُ نِصَابًا فَفِيهِ زَكَاةُ الذَّهَبِ وَإِنْ بَلَغَتْ الْفِضَّةُ نِصَابَهَا فَزَكَاةُ الْفِضَّةِ، لَكِنْ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْفِضَّةِ، أَمَّا إنْ كَانَتْ مَغْلُوبَةً فَهُوَ كُلُّهُ ذَهَبٌ لِأَنَّهُ أَعَزُّ وَأَغْلَى قِيمَةً. كَذَا ذَكَرَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ:

(لَيْسَ فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ صَدَقَةٌ. فَإِذَا كَانَتْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهَا نِصْفُ مِثْقَالٍ) لِمَا رَوَيْنَا وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ (ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ قِيرَاطَانِ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ رُبْعُ الْعُشْرِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا إذْ كُلُّ مِثْقَالٍ عِشْرُونَ قِيرَاطًا (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ صَدَقَةٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكُسُورِ، وَكُلُّ دِينَارٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي الشَّرْعِ فَيَكُونُ أَرْبَعَةُ مَثَاقِيلَ فِي هَذَا كَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. قَالَ: (وَفِي تِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَحُلِيِّهِمَا وَأَوَانِيهِمَا الزَّكَاةُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجِبُ فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ وَخَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ لِأَنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي مُبَاحٍ فَشَابَهُ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ. وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ مَالٌ نَامٍ وَدَلِيلُ النَّمَاءِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً، وَالدَّلِيلُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الثِّيَابِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ).
قولهُ: (لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي حَدِيثَ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمَ فِي صَدَقَةِ الْفِضَّةِ وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ. وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِالدَّعْوَى فَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي الذَّهَبِ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفَ دِينَارٍ وَمِنْ الْأَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا». وَهُوَ مُضَعَّفٌ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ زَنْجُوَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ شَيْءٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ شَيْءٌ، وَفِي الْمِائَتَيْنِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. وَفِي عِشْرِينَ مِثْقَالًا نِصْفُ مِثْقَالٍ» وَفِيهِ الْعَزْرَمِيُّ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي فَصْلِ الْإِبِلِ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ» وَهُوَ حَدِيثٌ لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
قولهُ: (وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ إلَخْ) قِيلَ هُوَ دَوْرٌ لِأَنَّهُ أَخَذَ كُلًّا مِنْ الْمِثْقَالِ وَالدِّرْهَمِ فِي تَعْرِيفٍ آخَرَ فَتَوَقَّفَ تَصَوُّرُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى تَصَوُّرِ الْآخَرِ. وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا تَعْرِيفًا لِأَنَّهُ قَالَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ، فَأَفَادَ أَنَّ الْمِثْقَالَ الْمَعْرُوفَ الَّذِي تَدَاوَلَهُ النَّاسُ وَعَرَفُوهُ مِثْقَالًا، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَعْرِيفِهِ كَمَا لَا يُعَرَّفُ مَا هُوَ بَدِيهِيُّ التَّصَوُّرِ إذْ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، فَكَانَ قولهُ وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةٍ إنَّمَا هُوَ لِإِزَالَةِ تَوَهُّمِ أَنْ يُرَادَ بِالْمِثْقَالِ غَيْرَ الْمَذْكُورِ فِي تَعْرِيفِ الدِّرْهَمِ، فَحَاصِلُ كَلَامِهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ قَالَ: وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْمِثْقَالِ ذَاكَ الَّذِي تَقَدَّمَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ لَا شَيْءٌ آخَرُ، وَهَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَحْسَنُ مِمَّا حَاوَلَ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الدَّفْعِ مِمَّا لَوْ أَوْرَدْته أَدَّى إلَى طُولٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ.
قولهُ: (وَكُلُّ دِينَارٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي الشَّرْعِ) أَيْ مُقَوَّمٌ فِي الشَّرْعِ بِعَشَرَةٍ كَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِذَا مَلَكَ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ فَقَدْ مَلَكَ مَا قِيمَتُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا مِمَّا لَا يَتَوَقَّفُ الْوُجُوبُ فِيهِ عَلَى نِيَّةِ التِّجَارَةِ فَيَجِبُ فِيهِ قَدْرُ الدِّرْهَمِ وَهُوَ قِيرَاطَانِ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الدِّينَارِ عِشْرِينَ قِيرَاطًا، فَلَا يَرُدُّ مَا أَوْرَدَهُ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
قولهُ: (وَحُلِيِّهِمَا) سَوَاءٌ كَانَ مُبَاحًا أَوْ لَا حَتَّى يَجِبَ أَنْ يُضَمَّ الْخَاتَمُ مِنْ الْفِضَّةِ وَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَالْمُصْحَفُ وَكُلُّ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ.
قولهُ: (فَشَابَهُ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ) حَاصِلُهُ قِيَاسُ الْحُلِيِّ بِثِيَابِ الْبِذْلَةِ بِجَامِعِ الِابْتِذَالِ فِي مُبَاحٍ وَدَفَعَهُ اعْتِبَارُ مَا عَيَّنَهُ مَانِعًا مِنْ الْوُجُوبِ فِي الْفَرْعِ، وَإِنْ كَانَ مَانِعًا فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَانِعِيَّتَهُ فِي الْأَصْلِ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُودَ السَّبَبِ بِمَنْعِ جُزْئِهِ: أَعْنِي النَّمَاءَ لَا لِذَاتِهِ وَلَا لِأَمْرٍ آخَرَ، وَمَنْعُهُ ذَلِكَ فِي النَّقْدَيْنِ مُنْتَفٍ لِأَنَّهُمَا خُلِقَا لِيُتَوَصَّلَ بِهِمَا إلَى الْإِبْدَالِ، وَهَذَا مَعْنَى الِاسْتِنْمَاءِ فَقَدْ خُلِقَا لِلِاسْتِنْمَاءِ وَلَمْ يُخْرِجْهُمَا الِابْتِذَالُ عَنْ ذَلِكَ، فَالنَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ حَاصِلٌ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ تَوَقُّفِ الْوُجُوبِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِذَا انْتَفَتْ مَانِعِيَّتَهُ عَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ وَهَذَا مَعْنَى مَا فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ الْمَنْقولاتُ مِنْ الْعُمُومَاتِ وَالْخُصُوصَاتِ تُصَرِّحُ بِهِ. فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «هَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ» رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ. وَمِنْ الْخُصُوصَاتِ مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ «امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا وَفِي يَدِ بِنْتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهُمَا: أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟ قَالَتْ لَا، قَالَ: أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارًا مِنْ نَارٍ؟ قَالَ: فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: هُمَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» قَالَ أَبُو الْحَسَنُ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، إسْنَادُهُ لَا مَقَالَ فِيهِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ رَجُلًا رَجُلًا.
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ قَالَ أَتَتْ امْرَأَتَانِ فَسَاقَهُ، وَفِيه: «أَتُحِبَّانِ أَنْ يُسَوِّر كَمَا اللَّهُ بِسِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟ قَالَتَا لَا، قَالَ: فَأَدِّيَا زَكَاتَهُ» وَتَضْعِيفُ التِّرْمِذِيِّ وَقولهُ لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ مُؤَوَّلٌ وَإِلَّا فَخَطَأٌ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: لَعَلَّ التِّرْمِذِيَّ قَصَدَ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا وَإِلَّا فَطَرِيقُ أَبِي دَاوُد لَا مَقَالَ فِيهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ بَعْدَ تَصْحِيحِهِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد: وَإِنَّمَا ضَعَّفَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَنَّ عِنْدَهُ فِيهِ ضَعِيفَيْنِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَالْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ. وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قال: «دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى فِي يَدَيَّ فَتَخَاتِ وَرِقٍ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ فَقُلْتُ: صُغْتُهُنَّ لِأَتَزَيَّنَ لَك بِهِنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَفَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ: هُنَّ حَسْبُكِ مِنْ النَّارِ» وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَطَاءٍ مَجْهُولٌ، وَتَعَقَّبَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَحَدُ الثِّقَاتِ، وَلَكِنْ لَمَّا نُسِبَ فِي سَنَدِ الدَّارَقُطْنِيِّ إلَى جَدِّهِ ظَنَّ أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَتَبِعَهُ عَبْدُ الْحَقِّ، وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا عِنْدَ أَبِي دَاوُد بَيَّنَهُ شَيْخُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الرَّازِيّ وَهُوَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ إمَامُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ. وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَتَّابِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالت: «كُنْتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ؟ فَقَالَ: مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ ثَابِتٍ بِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُه: «إذَا أَدَّيْتِ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ ثَابِتُ بْنُ عَجْلَانَ. قَالَ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ: وَهَذَا لَا يَضُرُّ فَإِنَّ ثَابِتَ بْنَ عَجْلَانَ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ. وَقول عَبْدِ الْحَقِّ لَا يُحْتَجُّ بِهِ قول لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ. وَمِمَّنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَنَسَبَهُ فِي ذَلِكَ إلَى التَّحَامُلِ، وَقول ابْنِ الْجَوْزِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَضَعُ الْحَدِيثَ عَلَى الثِّقَاتِ. قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ فِيهِ: هَذَا وَهْمٌ قَبِيحٌ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُهَاجِرِ الْكَذَّابَ لَيْسَ هُوَ هَذَا، فَهَذَا الَّذِي يَرْوِي عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ ثِقَةٌ شَامِيٌّ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ، وَوَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَدُحَيْمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ. وَعَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَرَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ مُتَابَعَةً. وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، إنَّمَا يُرْوَى عَنْ جَابِرٍ مِنْ قولهِ: وَأَمَّا الْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ فَمَوْقُوفَاتٌ وَمُعَارَضَاتٌ بِمِثْلِهَا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنْ مُرْ مَنْ قِبَلَك مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُزَكِّينَ حُلِيَّهُنَّ وَلَا يَجْعَلْنَ الزِّيَادَةَ وَالْهَدِيَّةَ بَيْنَهُنَّ تَقَارُضًا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: فِي الْحُلِيِّ الزَّكَاةُ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ إلَى خَازِنِهِ سَالِمٍ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ حُلِيِّ بَنَاتِهِ كُلَّ سَنَةٍ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ نِسَاءَهُ أَنْ يُزَكِّينَ حُلِيَّهُنَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: فِي الْحُلِيِّ الزَّكَاةُ. زَادَ ابْنُ شَدَّادٍ: حَتَّى فِي الْخَاتَمِ. وَأَخْرَجَ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الْحُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الزَّكَاةَ.
وَفِي الْمَطْلُوبِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَرْفُوعَةٌ غَيْرَ أَنَّا اقْتَصَرْنَا مِنْهَا عَلَى مَا لَا شُبْهَةَ فِي صِحَّتِهِ، وَالتَّأْوِيلَاتُ الْمَنْقولةُ عَنْ الْمُخَالِفِينَ مِمَّا يَنْبَغِي صَوْنُ النَّفْسِ عَنْ أَخْطَارِهَا وَالِالْتِفَاتِ إلَيْهَا.
وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ مَا يُصَرِّحُ بِرَدِّهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّا يُعَكِّرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَلِي بَنَاتِ أَخِيهَا يَتَامَى فِي حِجْرِهَا فَلَا تُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ، وَعَائِشَةُ رَاوِيَةُ حَدِيثِ الْفَتَخَاتِ، وَعَمَلُ الرَّاوِي بِخِلَافِ مَا رَوَى عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَنْسُوخًا. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلنَّسْخِ عِنْدَنَا هُوَ إذَا لَمْ يُعَارِضْ مُقْتَضَى النَّسْخِ مُعَارِضٌ يَقْتَضِي عَدَمَهُ، وَهُوَ ثَابِتٌ هُنَا فَإِنَّ كِتَابَةَ عُمَرَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حُكْمٌ مُقَرَّرٌ، وَكَذَا مَنْ ذَكَرْنَاهُ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ. فَإِذَا وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي النَّسْخِ، وَالثُّبُوتُ مُتَحَقِّقٌ لَا يُحْكَمُ بِالنَّسْخِ هَذَا كُلُّهُ عَلَى رَأَيْنَا. وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ الْخَصْمِ فَلَا يَرِدُ ذَلِكَ أَصْلًا، إذْ قُصَارَى فِعْلِ عَائِشَةَ قول صَحَابِيٍّ وَهُوَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُعَارَضًا بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَعَمَلُ الرَّاوِي بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ بَلْ الْعِبْرَةُ لِمَا رَوَى لَا لِمَا رَأَى عِنْدَهُ. وَلَا يُقَالُ: إنَّمَا لَمْ تُؤَدِّ مِنْ حُلِيِّهِنَّ لِأَنَّهُنَّ يَتَامَى، وَلَا زَكَاةَ عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّ مَذْهَبَهَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ فَلِذَا عَدَلْنَا فِي الْجَوَابِ إلَى مَا سَمِعْت، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. هَذَا وَيُعْتَبَرُ فِي الْمُؤَدَّى الْوَزْنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْخَيْرِيَّةُ، وَعِنْدَ زُفَرَ الْقِيمَةُ، فَلَوْ أَدَّى عَنْ خَمْسَةٍ جِيَادٍ خَمْسَةً زُيُوفًا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَكُرِهَ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَيُؤَدَّى الْفَضْلُ، وَلَوْ أَدَّى أَرْبَعَةً جَيِّدَةً عَنْ خَمْسَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةٍ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ لِاعْتِبَارِ مُحَمَّدٍ الْخَيْرِيَّةَ وَاعْتِبَارِهِمَا الْقَدْرَ، وَيَجُوزُ عِنْدَ زُفَرَ لِلْقِيمَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.


.فصْلٌ فِي الْعُرُوضِ:

(الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا مِنْ الْوَرِقِ أَوْ الذَّهَبِ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا «يُقَوِّمُهَا فَيُؤَدِّي مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ»، وَلِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلِاسْتِنْمَاءِ بِإِعْدَادِ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ الْمُعَدَّ بِإِعْدَادِ الشَّرْعِ، وَتُشْتَرَطُ نِيَّةُ التِّجَارَةِ لِيَثْبُتَ الْإِعْدَادُ، قَالَ: (يُقَوِّمُهَا بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ) احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَفِي الْأَصْلِ خَيَّرَهُ لِأَنَّ الثَّمَنَيْنِ فِي تَقْدِيرِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ بِهِمَا سَوَاءٌ، وَتَفْسِيرُ الْأَنْفَعِ أَنْ يُقَوِّمَهَا بِمَا تَبْلُغُ نِصَابًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِمَا اشْتَرَى إنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ النُّقُودِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَالِيَّةِ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ النُّقُودِ قَوَّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ (وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ كَامِلًا فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ فَنُقْصَانُهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ) لِأَنَّهُ يَشُقُّ اعْتِبَارُ الْكَمَالِ فِي أَثْنَائِهِ أَوْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي ابْتِدَائِهِ لِلِانْعِقَادِ وَتَحَقُّقِ الْغِنَى وَفِي انْتِهَائِهِ لِلْوُجُوبِ، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَالَةُ الْبَقَاءِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ هَلَكَ الْكُلُّ حَيْثُ يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ، وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ لِانْعِدَامِ النِّصَابِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ بَعْضَ النِّصَابِ بَاقٍ فَيَبْقَى الِانْعِقَادُ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الْعُرُوضِ) الْعُرُوض جَمْعُ عَرَضٍ بِفَتْحَتَيْنِ: حُطَامُ الدُّنْيَا، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَالصِّحَاحِ. وَالْعَرْضُ بِسُكُونِ الرَّاءِ الْمَتَاعُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ عَرْضٌ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْعُرُوض الْأَمْتِعَةُ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا كَيْلٌ وَلَا وَزْنٌ وَلَا يَكُونُ حَيَوَانًا وَلَا عَقَارًا، فَعَلَى هَذَا جَعْلُهَا هُنَا جَمْعَ عَرْضٍ بِالسُّكُونِ أَوْلَى لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ النَّقْدَيْنِ وَالْحَيَوَانَاتِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
قولهُ: (غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَالْحَيَوَانِ مَمْنُوعٌ) بَلْ فِي بَيَانِ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ السَّائِمَةَ الْمَنْوِيَّةَ لِلتِّجَارَةِ تَجِبُ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ السَّائِمَةِ كَالْإِبِلِ أَوْ لَا كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، فَالصَّوَابُ اعْتِبَارُهَا هُنَا جَمْعَ عَرْضٍ بِالسُّكُونِ عَلَى تَفْسِيرِ الصِّحَاحِ فَتَخْرُجُ النُّقُودُ فَقَطْ لَا عَلَى قول أَبِي عُبَيْدٍ وَإِيَّاهُ عَنَى فِي النِّهَايَةِ بِقولهِ وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ فَرَّعَ عَلَيْهِ إخْرَاجَ الْحَيَوَانِ.
قولهُ: (كَائِنَةً مَا كَانَتْ) كَائِنَةً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَلَفْظُ مَا مَوْصُولٌ خَبَرُهَا وَاسْمُهَا الْمُسْتَتِرُ فِيهَا الرَّاجِعُ إلَى عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَكَانَتْ صِلَةُ مَا وَاسْمُهَا الْمُسْتَتِرُ الرَّاجِعُ إلَى الْعُرُوضِ أَيْضًا، وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْمَنْصُوبُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ تَقْدِيرُهُ كَائِنَةً أَوْ كَانَتْ إيَّاهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْأَوْلَى فِي هَذَا الضَّمِيرِ مِنْ وَصْلِهِ أَوْ فَصْلِهِ، وَالْمَعْنَى: كَائِنَةً الَّذِي كَانَتْ إيَّاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ، وَاَلَّذِي عَامٌّ فَهُوَ كَقولهِ: كَائِنَةً أَيَّ شَيْءٍ كَانَتْ إيَّاهُ.
قولهُ: (لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «يُقَوِّمُهَا» إلَخْ) غَرِيبٌ.
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ وَمَوْقُوفَةٌ، فَمِنْ الْمَرْفُوعَةِ: مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنْ الَّذِي يُعَدُّ لِلْبَيْعِ».اهـ. سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد ثُمَّ الْمُنْذِرِيُّ، وَهَذَا تَحْسِينٌ مِنْهُمَا، وَصَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ إسْنَادَهُ حَسَنٌ، وَقول عَبْدِ الْحَقِّ خُبَيْبِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَاقِعُ فِي سَنَدِهِ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ وَلَا يُعْلَمُ رَوَى عَنْهُ إلَّا جَعْفَرُ بْنُ سَعْدٍ وَلَيْسَ جَعْفَرُ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ لَا يَخْرُجُ حَدِيثُهُ عَنْ الْحَسَنِ، فَإِنَّ نَفْيَ الشُّهْرَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْجَهَالَةِ وَلِذَلِكَ رَوَى هُوَ نَفْسُهُ حَدِيثَهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ «مَنْ كَتَمَ غَالًّا فَهُوَ مِثْلُهُ» عَنْ خُبَيْبِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَسَكَتَ عَنْهُ، وَهَذَا تَصْحِيحٌ مِنْهُ، وَبِهَذَا تَعَقَّبَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ. وَمِنْهَا فِي الْمُسْتَدْرِكِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهُ، وَمَنْ رَفَعَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ تِبْرًا أَوْ فِضَّةً لَا يَعُدُّهَا لِغَرِيمٍ وَلَا يُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. وَأَعَلَّهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ بِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، وَتَرَدَّدَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الْإِمَامِ فِي أَنَّهُ بِالزَّايِ أَوْ الرَّاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رَآهُ فِي أَصْلٍ مِنْ نُسَخِ الْمُسْتَدْرَكِ بِضَمِّ الْبَاءِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ، لَكِنْ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ أَنَّهُ بِالزَّايِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ صَحَّفَهُ بِالرَّاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ اهـ. وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ «وَفِي الْبَزِّ صَدَقَةٌ» قَالَهَا بِالزَّايِ هَكَذَا مُصَرِّحًا فِي الرِّوَايَةِ غَيْرَ أَنَّهَا ضُعِّفَتْ.
قولهُ: (وَتُشْتَرَطُ نِيَّةُ التِّجَارَةِ) لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً فَلَا يَصِيرُ لَهَا إلَّا بِقَصْدِهَا فِيهِ، وَذَلِكَ هُوَ نِيَّةُ التِّجَارَةِ، فَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا مَثَلًا لِلْخِدْمَةِ نَاوِيًا بَيْعَهُ إنْ وَجَدَ رِبْحًا لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مِمَّا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ التِّجَارَةِ كَمَا قَدَّمْنَا، فَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الْخَرَاجُ لَا الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَتْ عُشْرِيَّةً فَزَرَعَهَا حَكَى صَاحِبُ الْإِيضَاحِ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْعُشْرُ وَالزَّكَاةُ، وَعِنْدَهُمَا الْعُشْرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ فِي الْأَصْلِ تُعْتَبَرُ ثَابِتَةً فِي بَدَلِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ شَخْصُهَا فِيهِ، وَهُوَ مِمَّا يُلْغَزُ فَيُقَالُ عَرْضٌ اُشْتُرِيَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ يَجِبُ عِنْدَ الْحَوْلِ تَقْوِيمُهُ وَزَكَاتُهُ وَهُوَ مَا قُوِّضَ بِهِ مَالُ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فِيهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ بِنِيَّةِ عَدَمِهَا، وَعَنْ هَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ لِلتِّجَارَةِ فَقَتَلَهُ عَبْدٌ خَطَأً وَدَفَعَ بِهِ يَكُونُ الْمَدْفُوعُ لِلتِّجَارَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا فَصُولِحَ مِنْ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْقِصَاصِ لَا الْمَقْتُولِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ عَلَيْنَا لَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ وَمِنْ الدِّيَةِ وَلَوْ ابْتَاعَ مُضَارِبٌ عَبْدًا وَثَوْبًا لَهُ وَطَعَامًا وَحَمُولَةً وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي الْكُلِّ وَإِنْ قَصَدَ غَيْرَ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ إلَّا لِلتِّجَارَةِ، بِخِلَافِ رَبِّ الْمَالِ حَيْثُ لَا يُزَكَّى الثَّوْبُ وَالْحَمُولَةُ: لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ، كَذَا فِي الْكَافِي، وَمَحْمَلُ عَدَمِ تَزْكِيَةِ الثَّوْبِ لِرَبِّ الْمَالِ مَا دَامَ لَمْ يَقْصِدْ بَيْعَهُ مَعَهُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ النَّخَّاسُ إذَا اشْتَرَى دَوَابَّ لِلْبَيْعِ وَاشْتَرَى لَهَا مَقَاوِدَ وَجِلَالًا، فَإِنْ كَانَ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ مَعَ الدَّابَّةِ إلَى الْمُشْتَرَى لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ يَدْفَعُهَا مَعَهَا وَجَبَ فِيهَا، وَكَذَا الْعَطَّارُ إذَا اشْتَرَى قَوَارِيرَ.
قولهُ: (يُقَوِّمُهَا) أَيْ الْمَالِكُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ حَتَّى لَوْ كَانَ بَعَثَ عِنْدَ التِّجَارَةِ إلَى بَلَدٍ أُخْرَى لِحَاجَةٍ فَحَالَ الْحَوْلُ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَلَوْ كَانَ فِي مَفَازَةٍ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي أَقْرَبِ الْأَمْصَارِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَكَذَا فِي الْفَتَاوَى. ثُمَّ قول أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ: إنَّهُ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْوُجُوبِ وَعِنْدَهُمَا يَوْمَ الْأَدَاءِ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُمَا جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ وَلَهُ وِلَايَةُ مَنْعِهَا إلَى الْقِيمَةِ فَتُعْتَبَرُ يَوْمَ الْمَنْعِ كَمَا فِي مَنْعِ الْوَدِيعَةِ وَوَلَدِ الْمَغْصُوبِ، وَعِنْدَهُ الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا ابْتِدَاءً، وَلِذَا يُجْبَرُ الْمُصَدِّقُ عَلَى قَبُولِهَا فَيَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَهُوَ وَقْتُ الْوُجُوبِ. وَلَوْ كَانَ النِّصَابُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ رُبْعَ عُشْرِ عَيْنِهِ فِي الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ اتِّفَاقًا، فَإِنْ أَحَبَّ إعْطَاءَ الْقِيمَةِ جَرَى الْخِلَافُ حِينَئِذٍ، وَكَذَا إذَا اُسْتُهْلِكَ ثُمَّ تَغَيَّرَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِثْلٌ فِي الذِّمَّةِ فَصَارَ كَأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمَةٌ، وَلَوْ كَانَ نُقْصَانُ السِّعْرِ لِنَقْصٍ فِي الْعَيْنِ بِأَنْ ابْتَلَّتْ الْحِنْطَةُ اُعْتُبِرَ يَوْمَ الْأَدَاءِ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ هَلَاكُ بَعْضِ النِّصَابِ بَعْدَ الْحَوْلِ، أَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ لِزِيَادَتِهَا اُعْتُبِرَ يَوْمَ الْوُجُوبِ اتِّفَاقًا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا تُضَمُّ، نَظِيرُهُ، اعْوَرَّتْ أَمَةُ التِّجَارَةِ مَثَلًا بَعْدَ الْحَوْلِ فَانْتَقَصَتْ قِيمَتُهَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْأَدَاءِ، أَوْ كَانَتْ عَوْرَاءَ فَانْجَلَى الْبَيَاضُ بَعْدَهُ فَازْدَادَتْ قِيمَتُهَا اُعْتُبِرَ يَوْمَ تَمَامِ الْحَوْلِ.
قولهُ: (وَتَفْسِيرُ الْأَنْفَعِ أَنْ يُقَوِّمَهَا بِمَا بَلَغَ نِصَابًا) صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ وَأَقْوَالِ الصَّاحِبَيْنِ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّهُ بِالْأَنْفَعِ عَيْنًا أَوْ بِالتَّخْيِيرِ أَوْ بِمَا اشْتَرَى بِهِ إنْ كَانَ مِنْ النُّقُودِ وَإِلَّا فَبِالنَّقْدِ الْغَالِبِ أَوْ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ مُطْلَقًا. ثُمَّ فَسَّرَ الْأَنْفَعَ الَّذِي هُوَ أَحَدُهَا بِأَنْ يُقَوَّمَ بِمَا يَبْلُغُ نِصَابًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ إذَا قَوَّمَهَا بِأَحَدِهِمَا لَا تَبْلُغُ نِصَابًا وَالْآخَرُ تَبْلُغُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّقْوِيمُ بِمَا يَبْلُغُ فَأَفَادَ أَنَّ بَاقِيَ الْأَقْوَالِ يُخَالِفُ هَذَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا خِلَافَ فِي تَعَيُّنِ الْأَنْفَعِ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَا يُفِيدُهُ لَفْظُ النِّهَايَةِ وَالْخُلَاصَةِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي وَجْهِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: إنَّ الْمَالَ كَانَ فِي يَدِ الْمَالِكِ يَنْتَفِعُ بِهِ زَمَانًا طَوِيلًا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ الْفُقَرَاءِ عِنْدَ التَّقْوِيمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُقَوِّمُهُ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ يَتِمُّ النِّصَابُ وَبِالْآخَرِ لَا فَإِنَّهُ يُقَوِّمُهُ بِمَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ بِالِاتِّفَاقِ فَهَذَا مِثْلُهُ انْتَهَى.
وَفِي الْخُلَاصَةِ قَالَ: إنْ شَاءَ قَوَّمَهَا بِالذَّهَبِ وَإِنْ شَاءَ بِالْفِضَّةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقَوِّمُ بِمَا هُوَ الْأَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقَوِّمُ بِمَا اشْتَرَى، هَذَا إذَا كَانَ يَتِمُّ النِّصَابُ بِأَيِّهِمَا قُوِّمَ، فَلَوْ كَانَ يَتِمُّ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ قُوِّمَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ نِصَابًا انْتَهَى. فَإِنَّمَا يُتَّجَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضَ الْمُرَادِ بِالْأَنْفَعِ، فَالْمَعْنَى يُقَوِّمُ الْمَالِكُ بِالْأَنْفَعِ مُطْلَقًا فَيَتَعَيَّنُ مَا يَبْلُغُ بِهِ نِصَابًا دُونَ مَا لَا يَبْلُغُ: فَإِنْ بَلَغَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَأَحَدُهُمَا أَرْوَجُ تَعَيَّنَ التَّقْوِيمُ بِالْأَرْوَجِ، وَإِنْ اسْتَوَيَا رَوَاجًا حِينَئِذٍ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ لَفْظُ الْكَافِي فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْأَنْفَعُ بِهَذَا الْمَعْنَى صَحَّ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَابِلَهُ الْقول بِالتَّخْيِيرِ مُطْلَقًا، وَالْقول الْمُفَصَّلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهُ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَيَلْزَمُ التَّقْوِيمُ بِهِ أَوَّلًا فَبِالنَّقْدِ الْغَالِبِ، وَقَدْ يُقَالُ: عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يَصِحُّ مُقَابَلَتُهُ بِقول مُحَمَّدٍ إنَّهُ يُقَوَّمُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى تَعْيِينِ مَا يَبْلُغُ بِهِ النِّصَابُ، لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ كَوْنِ النَّقْدِ أَرْوَجَ كَوْنُهُ أَغْلَبَ وَأَشْهَرَ حَتَّى يَنْصَرِفَ الْمُطْلَقُ فِي الْبَيْعِ إلَيْهِ، وَلَا يُدْفَعُ إلَّا بِأَنَّ الْأَرْوَجَ مَا النَّاسُ لَهُ أَقْبَلُ وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَغْلَبَ: أَيْ أَكْثَرَ، وَيَكُونُ سُكُوتُهُ فِي الْخُلَاصَةِ عَنْ ذِكْرِ قول مُحَمَّدٍ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا إلَيْهِ لِعَدَمِ خِلَافِهِ، هَذَا وَالْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَوَّمَهَا بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ بِالدَّنَانِيرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ، فَلِذَا أَفَادَتْ عِبَارَةُ الْخُلَاصَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَالْكَافِي أَنَّ اعْتِبَارَ الْأَنْفَعِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ مِنْ التَّخْيِيرِ هُوَ مَا إذَا كَانَ التَّقْوِيمُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَتَفَاوَتُ.
قولهُ: (لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَالِيَّةِ) لِأَنَّهُ بَدَلُهُ وَلِلْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ. وَجْهُ قول مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعُرْفَ صَلُحَ مُعِينًا وَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِنَقْدٍ مُطْلَقٍ إلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ، وَلِأَنَّ التَّقْوِيمَ فِي حَقِّ اللَّهِ يُعْتَبَرُ بِالتَّقْوِيمِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ، وَمَتَى قَوَّمْنَا الْمَغْصُوبَ أَوْ الْمُسْتَهْلَكَ نُقَوِّمُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ كَذَا هَذَا.
قولهُ: (فَنُقْصَانُهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ) حَتَّى لَوْ بَقِيَ دِرْهَمٌ أَوْ فَلْسٌ مِنْ ثَمَّ اسْتَفَادَ قَبْلَ فَرَاغِ الْحَوْلِ حَتَّى تَمَّ عَلَى نِصَابٍ زَكَّاهُ، وَشَرَطَ زُفَرُ كَمَالَهُ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي السَّوَائِمِ وَالنَّقْدَيْنِ وَفِي غَيْرِهِمَا اُعْتُبِرَ آخِرٌ فَقَطْ. وَجْهُ قول زُفَرَ أَنَّ السَّبَبَ النِّصَابُ الْحَوْلِيُّ وَهُوَ الَّذِي حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَهَذَا فَرْعُ بَقَاءِ اسْمِهِ فِي تَمَامِ الْحَوْلِ، وَهَذَا وَجْهُ قول الشَّافِعِيِّ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ أَخْرَجَ مَالَ التِّجَارَةِ لِلْحَرَجِ اللَّازِمِ مِنْ إلْزَامِ التَّقْوِيمِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَاعْتِبَارِهَا فِيهِ. قُلْنَا: لَمْ يَرِدْ مِنْ لَفْظِ الشَّارِعِ السَّبَبُ النِّصَابُ الْحَوْلِيُّ بَلْ لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَبِظَاهِرِهِ نَقول، وَهُوَ إنَّمَا يُفِيدُ نَفْيَ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْحَوْلِ لَا نَفْيَ سَبَبِيَّةِ الْمَالِ قَبْلَهُ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ انْتِفَاءِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَى التَّرَاخِي وَانْتِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ، بَلْ قَدْ تَثْبُتُ السَّبَبِيَّةُ مَعَ انْتِفَاءِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لِفَقْدِ شَرْطِ عَمَلِ السَّبَبِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ أَصْلُ الْوُجُوبِ مُؤَجَّلًا إلَى تَمَامِ الْحَوْلِ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَإِذَا كَانَ السَّبَبُ قَائِمًا فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ انْعَقَدَ الْحَوْلُ حِينَئِذٍ وَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ وَهُوَ النِّصَابُ، ثُمَّ الْحَاجَةُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى كَمَالِهِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ لِيَنْزِلَ الْحُكْمُ الْآخَرُ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَكَمَالُهُ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ وَصَارَ كَالْيَمِينِ بِطَلَاقِهَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْيَمِينِ لِيَنْعَقِدَ، وَعِنْدَ الشَّرْطِ فَقَطْ لِيَثْبُتَ الْجَزَاءُ لَا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، إذْ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ كُلُّهُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَجَعْلُ السَّائِمَةِ عَلُوفَةً كَهَلَاكِ الْكُلِّ لِوُرُودِ الْمُغَيِّرِ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، بِخِلَافِ النُّقْصَانِ فِي الذَّاتِ. وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا كَانَ لَهُ غَنَمٌ لِلتِّجَارَةِ تُسَاوِي نِصَابًا فَمَاتَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ فَسَلَخَهَا وَدَبَغَ جِلْدَهَا فَتَمَّ الْحَوْلُ كَانَ عَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ إنْ بَلَغَتْ نِصَابًا. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَصِيرٌ لِلتِّجَارَةِ فَتَخَمَّرَ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ صَارَ خَلًّا يُسَاوِي نِصَابًا فَتَمَّ الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ فِيهِ، قَالُوا: لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ الصُّوفَ الَّذِي عَلَى الْجِلْدِ مُتَقَوِّمٌ فَيَبْقَى الْحَوْلُ بِبَقَائِهِ. وَالثَّانِي بَطَلَ تَقَوُّمُ الْكُلِّ بِالْخَمْرِيَّةِ فَهَلَكَ كُلُّ الْمَالِ انْتَهَى إلَّا أَنَّهُ يُخَالِفُ مَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ اشْتَرَى عَصِيرًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَتَخَمَّرَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا مَضَتْ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا صَارَ خَلًّا يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَتَمَّتْ السُّنَّةُ كَانَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ عَادَ لِلتِّجَارَةِ كَمَا كَانَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَتُضَمُّ قِيمَةَ الْعُرُوضِ إلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَتَّى يَتِمَّ النِّصَابُ) لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ بِاعْتِبَارِ التِّجَارَةِ وَإِنْ افْتَرَقَتْ جِهَةُ الْإِعْدَادِ (وَيُضَمُّ الذَّهَبُ إلَى الْفِضَّةِ) لِلْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ سَبَبًا، ثُمَّ يُضَمُّ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بِالْأَجْزَاءِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ، حَتَّى إنَّ مَنْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، هُمَا يَقولانِ الْمُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْقَدْرُ دُونَ الْقِيمَةِ حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي مَصُوغٍ وَزْنُهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْنِ وَقِيمَتُهُ فَوْقَهَا، هُوَ يَقول: إنَّ الضَّمَّ لِلْمُجَانَسَةِ وَهِيَ تَتَحَقَّقُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ دُونَ الصُّورَةِ فَيُضَمُّ بِهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَتُضَمُّ إلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّ عُرُوضَ التِّجَارَةِ يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا، وَكَذَا تُضَمُّ هِيَ إلَى النَّقْدَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالسَّوَائِمُ الْمُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ لَا تُضَمُّ بِالْإِجْمَاعِ كَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَالنَّقْدَانِ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمِّ فِيهِمَا عَلَى مَا نَذْكُرُ ثُمَّ إنَّمَا يُضَمُّ الْمُسْتَفَادُ قَبْلَ الْوُجُوبِ، فَلَوْ أُخِّرَ الْأَدَاءُ فَاسْتَفَادَ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا يَضُمُّهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَيَضُمُّ الدَّيْنَ إلَى الْعَيْنِ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ مِائَةٌ وَلَهُ دَيْنٌ مِائَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ. وَقولهُ: كَمَا فِي السَّوَائِمِ إفَادَةٌ لِلْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ بِجَامِعِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَحُكْمًا بِدَلِيلِ عَدَمِ جَرَيَانِ رِبَا الْفَضْلِ بَيْنَهُمَا مَعَ كَوْنِ الرِّبَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ فَاسْتَفَدْنَا عَدَمَ اعْتِبَارِ شُبْهَةِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ بَيْنَهُمَا، وَالِاتِّحَادُ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةِ لَا يُوجِبُ اتِّحَادَ الْجِنْسِ كَالرُّكُوبِ فِي الدَّوَابِّ، بِخِلَافِ ضَمِّ الْعُرُوضِ إلَيْهِمَا لِأَنَّهُ ضَمُّ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَالْقِيمَةُ هُمَا فَالضَّمُّ لَمْ يَقَعْ إلَّا فِي النُّقُودِ. قُلْنَا: إنَّمَا كَانَا نِصَابَ الزَّكَاةِ بِسَبَبِ الثَّمَنِيَّةِ لِأَنَّهُ الْمُفِيدُ لِتَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ وَسَدِّ الْحَاجَاتِ لَا لِخُصُوصِ اللَّوْنِ أَوْ الْجَوْهَرِ، وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْغِنَى وَهُوَ السَّبَبُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ بِذَلِكَ لَا بِغَيْرِهِ وَقَدْ اتَّحَدَا فِيهِ فَكَانَا جِنْسًا وَاحِدًا فِي حَقِّ الزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ الِاتِّحَادُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ كَالتَّفَاضُلِ فِي الْبَيْعِ فَحَقِيقَةُ السَّبَبِ الثَّمَنُ الْمُقَدَّرُ بِكَذَا إذَا كَانَ بِصُورَةِ كَذَا وَبِكَذَا إذَا كَانَ بِصُورَةِ كَذَا، بِخِلَافِ الرُّكُوبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُحَقِّقَ لِلسَّبَبِيَّةِ فِي السَّوَائِمِ، فَإِنَّ الْغِنَى لَمْ يَثْبُتْ بِاعْتِبَارِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهَا الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَنَافِعَ شَتَّى تَسْتَدُّ بِهَا الْحَاجَاتُ أَعْظَمُهَا مَنْفَعَةً الْأَكْلُ الَّتِي بِهَا يُقَوَّمُ ذَاتُ الْمُنْتَفَعِ وَنَفْسُهُ، ثُمَّ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ مَشَايِخُنَا عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُضَمَّ الذَّهَبُ إلَى الْفِضَّةِ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَحُكْمُ مِثْلِ هَذَا الرَّفْعُ.
قولهُ: (وَعِنْدَهُمَا بِالْإِجْزَاءِ) بِأَنْ يُعْتَبَرَ تَكَامُلُ أَجْزَاءِ النِّصَابِ مِنْ الرُّبْعِ وَالنِّصْفِ وَبَاقِيهَا، فَإِذَا كَانَ مِنْ الذَّهَبِ عَشَرَةٌ يُعْتَبَرُ مَعَهُ نِصْفُ نِصَابِ الْفِضَّةِ وَهُوَ مِائَةٌ، فَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَةٌ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ تَبْلُغُ مِائَةً لَا زَكَاةَ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْمِائَةَ نِصْفُ نِصَابٍ وَالْخَمْسَةَ رُبْعُ نِصَابٍ، فَالْحَاصِلُ أَجْزَاءُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ نِصَابٍ وَعِنْدَهُ تَجِبُ لِأَنَّ الْحَاصِلَ تَمَامُ نِصَابِ الْفِضَّةِ مَعْنًى، ثُمَّ قَالَ فِي الْكَافِي: وَلَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ عِنْدَ تَكَامُلِ الْأَجْزَاءِ كَمِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّهُ مَتَى اُنْتُقِصَ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا تَزْدَادُ قِيمَةُ الْآخَرِ فَيُمْكِنُ تَكْمِيلُ مَا يُنْتَقَصُ قِيمَتُهُ بِمَا زَادَ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُؤَدَّى الضَّابِطِ أَنَّ عِنْدَ تَكَامُلِ الْأَجْزَاءِ لَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ أَصْلًا لَهُمَا وَلَا لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَجِبَ خَمْسَةٌ فِي مِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَنَانِيرَ سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَشَرَةِ أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ أَوْ أَكْثَرَ كَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ. وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ لَا يُلَاقِي الضَّابِطَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، بَلْ إنَّمَا يُفِيدُ وُجُوبَ اعْتِبَارِ قِيمَةِ مَا زَادَ عِنْدَ انْتِقَاصِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ دَفْعًا لِقول مَنْ قَالَ فِي مِائَةٍ وَعَشَرَةٍ لَا تُسَاوِي مِائَةً لَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْقِيمَةَ، وَعَلَى اعْتِبَارِهَا لَا يَتِمُّ النِّصَابُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَدُفِعَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ مُطْلَقِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ اعْتِبَارُ قِيمَةِ أَحَدِهِمَا عَيْنًا، فَإِنْ لَمْ يَتِمَّ بِاعْتِبَارِ قِيمَةِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ فَإِنَّهُ يَتِمُّ بِاعْتِبَارِ تَقْوِيمِ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ الْعَشَرَةَ تُسَاوِي ثَمَانِينَ فَالْمِائَةُ مِنْ الْفِضَّةِ تُسَاوِي اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا وَنِصْفًا فَيَتِمُّ بِذَلِكَ مَعَ الْعَشَرَةِ دَنَانِيرَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ دِينَارًا وَنِصْفٌ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ.
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ مِنْ جِهَةِ كُلٍّ مِنْ النَّقْدَيْنِ لَا مِنْ جِهَةِ أَحَدِهِمَا عَيْنًا، فَكَيْفَ يَكُونُ تَعْلِيلًا لِعَدَمِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ تَكَامُلِ الْأَجْزَاءِ. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ زَادَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ تَنْقُصْ قِيمَةُ الْآخَرِ كَمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ تُسَاوِي مِائَةً وَثَمَانِينَ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ سَبْعَةٌ عَلَى قولهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْكُورِ فِي دَلِيلِهِ مِنْ أَنَّ الضَّمَّ لَيْسَ إلَّا لِلْمُجَانَسَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ لَا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ فَيُضَمَّانِ بِالْقِيمَةِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَعَيُّنَ الضَّمِّ بِهَا مُطْلَقًا عِنْدَ تَكَامُلِ الْأَجْزَاءِ وَعَدَمِهِ، ثُمَّ لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِلْجَوَابِ عَمَّا اسْتَدَلَّا بِهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمَصُوغِ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ شَرْعًا هُوَ الْقَدْرُ فَقَطْ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِيمَةَ فِيهِمَا إنَّمَا تَظْهَرُ إذَا قُوبِلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ أَوْ عِنْدَ الضَّمِّ لِمَا قُلْنَا: إنَّهُ بِالْمُجَانَسَةِ وَهِيَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ انْفِرَادِ الْمَصُوغِ حَتَّى لَوْ وَجَبَ تَقْوِيمُهُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بِأَنْ اُسْتُهْلِكَ قُوِّمَ بِخِلَافِ جِنْسِهِ وَظَهَرَتْ قِيمَةُ الصَّنْعَةِ وَالْجَوْدَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ وَالصَّنْعَةَ سَاقِطَتَا الِاعْتِبَارِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا.


.بَابٌ فِيمَنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ:

(إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ فَقَالَ أَصَبْتُهُ مُنْذُ أَشْهُرٍ أَوْ عَلَيَّ دَيْنٌ وَحَلَفَ صُدِّقَ) وَالْعَاشِرُ مَنْ نَصَبَهُ الْإِمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ مِنْ التُّجَّارِ، فَمَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ تَمَامَ الْحَوْلِ أَوْ الْفَرَاغِ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ مُنْكِرًا لِلْوُجُوبِ وَالْقول قول الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ (وَكَذَا إذَا قَالَ: أَدَّيْتُهَا إلَى عَاشِرٍ آخَرَ)، وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ فِي تِلْكَ السُّنَّةِ عَاشِرٌ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى وَضْعَ الْأَمَانَةِ مَوْضِعَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَاشِرٌ آخَرُ فِي تِلْكَ السَّنَةَ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُ بِيَقِينٍ (وَكَذَا إذَا قَالَ: أَدَّيْتُهَا أَنَا) يَعْنِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ كَانَ مُفَوَّضًا إلَيْهِ فِيهِ، وَوِلَايَةُ الْأَخْذِ بِالْمُرُورِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْحِمَايَةِ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي صَدَقَةِ السَّوَائِمِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ، وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ: أَدَّيْتُ بِنَفْسِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ لَا يُصَدَّقُ وَإِنْ حَلَفَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ الْحَقَّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ. وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ. ثُمَّ قِيلَ الزَّكَاةُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي سِيَاسَةٌ. وَقِيلَ هُوَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ يَنْقَلِبُ نَفْلًا وَهُوَ الصَّحِيحُ، ثُمَّ فِيمَا يُصَدَّقُ فِي السَّوَائِمِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ لَمْ يَشْتَرِطْ إخْرَاجَ الْبَرَاءَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَشَرَطَهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى، وَلِصِدْقِ دَعْوَاهُ عَلَامَةٌ فَيَجِبُ إبْرَازُهَا. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَا يُعْتَبَرُ عَلَامَةً.
الشَّرْحُ:
(بَابٌ فِيمَنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ) أُخِّرَ هَذَا الْبَابُ عَمَّا قَبْلَهُ لِتَمَحُّضِ مَا قَبْلَهُ فِي الْعِبَادَةِ، بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّ الْمُرَادَ بَابُ مَا يُؤْخَذُ مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ وَذَلِكَ يَكُونُ زَكَاةً كَالْمَأْخُوذِ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَغَيْرِهَا كَالْمَأْخُوذِ مِنْ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِ الْعِبَادَةُ قَدَّمَهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ الْخُمُسِ. وَالْعَاشِرُ فَاعِلٌ مِنْ عَشَرْت أَعْشُرُ عُشْرًا بِالضَّمِّ فِيهِمَا. وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يَدُورُ اسْمُ الْعُشْرِ فِي مُتَعَلَّقِ أَخْذِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْعُشْرَ مِنْ الْحَرْبِيِّ لَا الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ.
قولهُ: (إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ إلَخْ) مَفْهُومُ شَرْطِهِ لَوْ اُعْتُبِرَ اسْمُ الْمَالِ عَلَى ظَاهِرِهِ إذَا لَمْ يَمُرَّ بِمَالٍ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ الْعَاشِرُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَمُرَّ بِهَا فَوَجَبَ تَقْيِيدُهُ بِالْبَاطِنِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ مَفْهُومُ شَرْطِهِ: أَيْ إذَا يَمُرُّ عَلَيْهِ بِمَالٍ بَاطِنٍ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ فَيَصْدُقُ.
قولهُ: (وَالْعَاشِرُ مَنْ نَصَبَهُ الْإِمَامُ إلَخْ) فِيهِ قَيْدٌ زَادَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ أَنْ يَأْمَنَ بِهِ التُّجَّارُ مِنْ اللُّصُوصِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَلِأَنَّ أَخْذَهُ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ وَالذِّمِّيِّ لَيْسَ إلَّا لِلْحِمَايَةِ وَثُبُوتِ وِلَايَةِ الْأَخْذِ مِنْ الْمُسْلِمِ أَيْضًا لِذَلِكَ، وَقولهُ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ تَغْلِيبًا لِاسْمِ الْعِبَادَةِ عَلَى غَيْرِهَا.
قولهُ: (وَالْقول الْمُنْكَرُ مَعَ الْيَمِينِ) وَالْعِبَادَاتُ وَإِنْ كَانَتْ يَصْدُقُ فِيهَا بِلَا تَحْلِيفٍ لَكِنْ تَعَلَّقَ بِهِ هُنَا حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْعَاشِرُ فِي الْأَخْذِ فَهُوَ يَدَّعِي عَلَيْهِ مَعْنًى لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَيَحْلِفُ لِرَجَاءِ النُّكُولِ، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ مُتَعَذِّرٌ فِي الْحُدُودِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَبِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهَا، فَانْدَفَعَ قول أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحْلِفُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، وَكَذَا إذَا قَالَ: هَذَا الْمَالُ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ هُوَ بِضَاعَةٌ لِفُلَانٍ وَكُلُّ مَا وُجُودُهُ مُسْقِطٌ.
قولهُ: (يَعْنِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ) قَيْدٌ بِالْمِصْرِ لِأَنَّهُ لَوْ أَدَّى إلَى الْفُقَرَاءِ بَعْدَ خُرُوجِهِ إلَى السَّفَرِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ أَخْذِ الْعَاشِرِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ إنَّمَا كَانَ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْمِصْرِ وَبِمُجَرَّدِ خُرُوجِهِ مُسَافِرًا انْتَقَلَتْ الْوِلَايَةُ عَنْهُ إلَى الْإِمَامِ.
قولهُ: (فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ) هِيَ السَّابِقَةُ عَلَى قولهِ: أُدِّيَتْ إلَى الْفُقَرَاءِ.
قولهُ: (إلَى الْمُسْتَحَقِّ) فَصَارَ كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ إذَا دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ.
قولهُ: (وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ) يُمْكِنُ بِأَنْ يَضْمَنَ مَنْعَ كَوْنِهِ أَوْصَلَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ بَلْ الْمُسْتَحِقُّ الْإِمَامُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِمَامَ مُسْتَحِقٌّ الْأَخْذَ وَالْفَقِيرَ مُسْتَحِقٌّ التَّمَلُّكَ وَالِانْتِفَاعَ، فَحَاصِلُهُ أَنَّ هُنَاكَ مُسْتَحِقَّيْنِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَرُّ الْحَقِّ الَّذِي فَوَّتَهُ لَيْسَ إلَّا بِإِعَادَةِ الدَّفْعِ إلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَجِيءُ النَّظَرُ فِي الْمَدْفُوعِ مَا هُوَ الْوَاقِعُ زَكَاةً مِنْهُمَا، قِيلَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي سِيَاسَةٌ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ السِّيَاسَةِ هُنَا كَوْنُ الْآخِذِ لِيَنْزَجِرَ عَنْ ارْتِكَابِ تَفْوِيتِ حَقِّ الْإِمَامِ. وَقِيلَ الثَّانِي وَيَنْقَلِبُ الْأَوَّلُ نَفْلًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ كَوْنُ الزَّكَاةِ فِي صُورَةِ الْمُرُورِ مَا يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ وَيَدْفَعُهُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي السَّابِقِ وَوُجِدَ فِي اللَّاحِقِ، وَانْفِسَاخُ السَّابِقِ النَّاقِصِ لِلَّاحِقِ الْكَامِلِ ثَابِتٌ فِي الشَّرْعِ كَبُطْلَانِ الظُّهْرِ الْمُؤَدَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فَيَنْفَسِخُ مِثْلُهُ بِجَامِعِ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ بَعْدَ الْأَدَاءِ بِفِعْلِ الثَّانِي مَعَ امْتِنَاعِ تَعَدُّدِ الْفَرْضِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ثَانِيًا وَإِنْ عَلِمَ صِدْقَهُ، وَلَا يُنَافِي كَوْنُ الْأَخْذِ لِلسِّيَاسَةِ انْفِسَاخَ الْأَوَّلِ وَوُقُوعَ الثَّانِي زَكَاةً بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ.
قولهُ: (ثُمَّ فِيمَا يَصْدُقُ إلَخْ) أَطْلَقَ فِيمَا يَصْدُقُ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ اشْتَرَطَ فِي الْأَصْلِ إخْرَاجَهَا فِي قولهِ: أُدِّيَتْ إلَى الْفُقَرَاءِ وَأَخَوَاتِهَا لَكِنَّهُ اعْتَمَدَ فِي تَقْيِيدِهِ عَلَى عَدَمِ تَأَتِّي صِحَّتِهِ، إذْ لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْ الْفُقَرَاءِ بَرَاءَةً وَلَا مِنْ الدَّائِنِ. وَلَا تُمْكِنُ فِي قولهِ: أَصَبْتُهُ مُنْذُ شَهْرٍ. وَتَأْخِيرُ الْمُصَنِّفِ وَجْهَ الْأَوَّلِ يُفِيدُ تَرَجُّحَهُ عِنْدَهُ، وَحَاصِلُهُ مَنْعُ كَوْنِهِ عَلَامَةً إذْ لَا يَلْزَمُ الِانْتِقَالُ مِنْهُ إلَى الْجَزْمِ بِكَوْنِهِ دُفِعَ إلَى الْعَاشِرِ لِأَنَّ الْخَطَّ لَا يَنْطِقُ وَهُوَ مُتَشَابِهٌ، ثُمَّ هَلْ يُشْتَرَطُ الْيَمِينُ مَعَ الْبَرَاءَةِ عَلَى قول مُشْتَرِطِهَا؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ. قِيلَ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يَصْدُقْ، وَعَلَى قولهِمَا يَصْدُقْ. وَلَا يَخْفَى بَعْدَ قولهِمَا إنْ كَانَ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِحَسَبِ ظَاهِرِ حَالِ الْمُتَدَيِّنِ أَدَلُّ مِنْ الْخَطِّ فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَرْكُهَا إلَيْهَا، وَلْيَذْكُرْ هُنَا قولهُ فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ: وَالِاسْتِخْبَارُ فَوْقَ التَّحَرِّي بَيَانًا لِلُزُومِهِ تَفْرِيعًا عَلَى قولهِ: لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلِ الظَّاهِرِ وَاجِبٌ عِنْدَ انْعِدَامِ دَلِيلٍ فَوْقَهُ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْقَطْعِيَّ لِأَنَّ الِاسْتِخْبَارَ لَا يُفِيدُ قَطْعًا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَا صُدِّقَ فِيهِ الْمُسْلِمُ صُدِّقَ فِيهِ الذِّمِّيُّ)؛ لِأَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَتُرَاعَى تِلْكَ الشَّرَائِطُ تَحْقِيقًا لِلتَّضْعِيفِ (وَلَا يُصَدَّقُ الْحَرْبِيُّ إلَّا فِي الْجَوَارِي يَقول: هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي، أَوْ غِلْمَانٍ مَعَهُ يَقول: هُمْ أَوْلَادِي)؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْحِمَايَةِ وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ غَيْرَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِنَسَبِ مَنْ فِي يَدِهِ مِنْهُ صَحِيحٌ، فَكَذَا بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا تَبْتَنِي عَلَيْهِ فَانْعَدَمَتْ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ فِيهِنَّ، وَالْأَخْذُ لَا يَجِبُ إلَّا مِنْ الْمَالِ. قَالَ: (وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ رُبْعُ الْعُشْرِ وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفُ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرُ) هَكَذَا أَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُعَاتَهُ (وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا مِنْ مِثْلِهَا)؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ زَكَاةٌ أَوْ ضِعْفُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ النِّصَابِ وَهَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ لَا نَأْخُذُ مِنْ الْقَلِيلِ وَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ لَمْ يَزَلْ عَفْوًا وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ. قَالَ: (وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَا يُعْلَمُ كَمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا نَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ) لِقول عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنْ أَعْيَاكُمْ فَالْعُشْرُ (وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا رُبْعَ الْعُشْرَ أَوْ نِصْفَ الْعُشْرِ نَأْخُذُ بِقَدَرِهِ، وَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْكُلَّ لَا نَأْخُذُ الْكُلَّ)؛ لِأَنَّهُ غَدْرٌ (وَإِنْ كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ أَصْلًا لَا نَأْخُذُ) لِيَتْرُكُوا الْأَخْذَ مِنْ تُجَّارِنَا وَلِأَنَّا أَحَقُّ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَتُرَاعَى تِلْكَ الشَّرَائِطُ) مِنْ الْحَوْلِ وَالنِّصَابِ وَالْفَرَاغِ مِنْ الدَّيْنِ وَكَوْنُهُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الزَّكَاةِ كَصَدَقَةِ بَنِي تَغْلِبَ تَحْقِيقًا لِلتَّضْعِيفِ، فَإِنَّ تَضْعِيفَ الشَّيْءِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ وَإِلَّا كَانَ تَبْدِيلًا، لَكِنْ بَقِيَ أَنَّهُ أَيُّ دَاعٍ إلَى اعْتِبَارِهِ تَضْعِيفًا لَا ابْتِدَاءَ وَظِيفَةٍ عِنْدَ دُخُولِهِ تَحْتَ الْحِمَايَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الدَّلِيلِ، وَبَنُو تَغْلِبَ رَوْعِي فِيهِمْ ذَلِكَ لِوُقُوعِ الصُّلْحِ عَلَيْهِ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي صَخْرٍ الْمُحَارِبِيِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ قَالَ: بَعَثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى عَيْنِ التَّمْرِ مُصَدِّقًا، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إذَا اخْتَلَفُوا بِهَا لِلتِّجَارَةِ رُبْعَ الْعُشْرِ، وَمِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَمِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْعُشْرَ، لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ، وَكَذَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ وَغَيْرُهُ، وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ وَهُوَ أَنَّهُ أَحْوَجُ إلَى الْحِمَايَةِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُهُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ مَا ذَكَرَ أَخَذَ مِنْهُ أَكْثَرَ وَاخْتِيرَ مِثْلَاهُ، أَلَا يَرَى أَنَّ بَاقِيَ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ قولهُمْ وَالْحَرْبِيُّ مِنْ الذِّمِّيِّ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ مِنْ الْمُسْلِمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ شَهَادَةَ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ وَلَهُ جَائِزَةٌ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ لَمْ يُوجِبْ اعْتِبَارَ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْحَرْبِيِّ. فَلَوْ اقْتَضَى هَذَا الْمَعْنَى اعْتِبَارَهُ تَضْعِيفَ عَيْنِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الذِّمِّيِّ لَزِمَ مُرَاعَاتُهَا.
قولهُ: (وَلَا يُصَدَّقُ الْحَرْبِيُّ إلَّا فِي الْجَوَارِي إلَخْ) الْعِبَارَةُ الْجَيِّدَةُ أَنْ يُقَالَ: وَلَا يُلْتَفَتُ أَوْ لَا يُتْرَكُ الْأَخْذُ مِنْهُ، لَا وَلَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ لَوْ صُدِّقَ بِأَنْ ثَبَتَ صِدْقُهُ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُسَافِرِينَ مَعَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أُخِذَ مِنْهُ، فَإِنَّ الْمَأْخُوذَ لَيْسَ زَكَاةً لِيَكُفَّ عَنْهُ لِعَدَمِ الْحَوْلِ وَوُجُودِ الدَّيْنِ، وَإِنْ قَالَ: هُوَ بِضَاعَةٌ فَهُوَ أَحْوَجُ إلَى الْحِمَايَةِ مِنْ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ إذْ لَا أَمْنَ لِصَاحِبِ الْمَالِ بَلْ لِلْمَارِّ، بِخِلَافِ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَهُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَبِهِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا أَمَّا عَلَى قولهِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عَلَى قولهِمَا، فَإِذَا كَانُوا يَدِينُونَ ذَلِكَ كَمَا إذَا مَرَّ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ عَنْهَا عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ إلَّا مِنْ مَالٍ، وَإِنْ قَالَ: هُمْ مُدَبَّرُونَ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَصِحُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
قولهُ: (لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ) أَيْ أَخْذَهُمْ بِكَمِّيَّةٍ خَاصَّةٍ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ لَا أَصْلَ الْأَخْذِ فَإِنَّهُ حَقٌّ مِنَّا وَبَاطِلٌ مِنْهُمْ فَالْحَاصِلُ أَنَّ دُخُولَهُ فِي الْحِمَايَةِ أَوَجَبَ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ إنْ عُرِفَ كَمِّيَّةُ مَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِثْلَهُ مُجَازَاةً، إلَّا إنْ عُرِفَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْكُلَّ فَلَا نَأْخُذُهُ عَلَى الْمُخْتَارِ بَلْ نُبْقِي مَعَهُ قَدْرَ مَا يُبَلِّغُهُ إلَى مَأْمَنِهِ. وَقِيلَ نَأْخُذُ الْكُلَّ مُجَازَاةً زَجْرًا لَهُمْ عَنْ مِثْلِهِ مَعَنَا، قُلْنَا: ذَلِكَ بَعْدَ إعْطَاءِ الْأَمَانِ غَدْرٌ وَلَا نَتَخَلَّقُ نَحْنُ بِهِ لِتَخَلُّقِهِمْ بِهِ بَلْ نُهِينَا عَنْهُ وَصَارَ كَمَا لَوْ قَتَلُوا الدَّاخِلَ إلَيْهِمْ بَعْدَ إعْطَائِهِ الْأَمَانَ نَفْعَلُ ذَلِكَ لِذَلِكَ، وَإِلَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ الْقَلِيلَ لَمْ يَزُلْ عَفْوًا وَلِأَنَّهُ يُسْتَصْحَبُ لِلنَّفَقَةِ وَدَفْعِ الْحَاجَةِ فَكَانَ كَالْمَعْدُومِ. وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ يُجَازَوْنَ بِالْأَخْذِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ كَمِّيَّةُ مَا يَأْخُذُونَ، فَالْعُشْرُ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْأَخْذِ بِالْحِمَايَةِ وَتَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْمُجَازَاةِ فَقُدِّرَ بِمِثْلَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ أَحْوَجُ إلَى الْحِمَايَةِ مِنْهُ وَلِمَا قُلْنَاهُ آنِفًا وَإِنْ عُرِفَ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ الْأَخْذَ مِنْ تُجَّارِنَا تَرَكْنَا نَحْنُ حَقَّنَا لِتَرْكِهِمْ ظُلْمَهُمْ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ إيَّاهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَخَلُّقٌ مِنْهُمْ بِالْإِحْسَانِ إلَيْنَا، وَنَحْنُ أَحَقُّ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْهُمْ قَالَ: (وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ عَلَى عَاشِرٍ فَعَشَرَهُ ثُمَّ مَرَّ مَرَّةً أُخْرَى لَمْ يَعْشُرْهُ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ)؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ اسْتِئْصَالُ الْمَالِ وَحَقُّ الْأَخْذِ لِحِفْظِهِ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ بَاقٍ، وَبَعْدَ الْحَوْلِ يَتَجَدَّدُ الْأَمَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ إلَّا حَوْلًا، وَالْأَخْذُ بَعْدَهُ لَا يَسْتَأْصِلُ الْمَالَ (فَإِنْ عَشَرَهُ فَرَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ عَشَرَهُ أَيْضًا)؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ بِأَمَانٍ جَدِيدٍ. وَكَذَا الْأَخْذُ بَعْدَهُ لَا يُفْضِي إلَى الِاسْتِئْصَالِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لَمْ يَعْشُرْهُ إلَخْ) هَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لِمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ أُخِذَ مِنْهُ ثَانِيًا وَلَوْ كَانَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لِقُرْبِ الدَّارَيْنِ وَاتِّصَالِهِمَا كَمَا فِي جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ.
قولهُ: (لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ اسْتِئْصَالٌ لِلْمَالِ) فَيَعُودُ عَلَى مَوْضِعِ الْأَمَانِ بِالنَّقْضِ.
قولهُ: (إلَّا حَوْلًا) لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالصَّوَابُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِدُونِ لَفَظَّةِ إلَّا نَقَلَهَا نُسْخَةً فِي الْكَافِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ مِنْ سَهْوِ الْكَاتِبِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَوْلًا بَلْ دُونَهُ، وَيَقول: لَهُ الْإِمَامُ إذَا دَخَلَ إنْ أَقَمْت حَوْلًا ضَرَبْت عَلَيْك الْجِزْيَةَ، فَإِنْ فَعَلَ ضَرَبَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْعَوْدِ أَبَدًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجِزْيَةِ وَجَعْلِهِ عَيْنًا عَلَيْنَا بَعْدَ عِلْمِهِ بِمَدَاخِلِنَا وَمَخَارِجِنَا، وَذَلِكَ زِيَادَةُ شَرٍّ عَلَيْنَا فَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ مَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِمَقَامِهِ حَوْلًا عَشَرَهُ ثَانِيًا زَجْرًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَرُدُّهُ إلَى دَارِنَا. وَالْأَصْلُ أَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ لَا يَتَجَدَّدُ إلَّا بِتَجَدُّدِ الْحَوْلِ أَوْ تَجَدُّدِ الدُّخُولِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِانْتِهَاءِ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ بِالْعَوْدِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَمَانٍ جَدِيدٍ إذَا خَرَجَ.

متن الهداية:
(وَإِنْ مَرَّ ذِمِّيٌّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ عَشَرَ الْخَمْرَ دُونَ الْخِنْزِيرِ) وَقولهُ عَشَرَ الْخَمْرَ: أَيْ مِنْ قِيمَتِهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَعْشُرُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُمَا.
وَقَالَ زُفَرُ: يَعْشُرُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَعْشُرُهُمَا إذَا مَرَّ بِهِمَا جُمْلَةً كَأَنَّهُ جَعَلَ الْخِنْزِيرَ تَبَعًا لِلْخَمْرِ، فَإِنْ مَرَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ عَشَرَ الْخَمْرَ دُونَ الْخِنْزِيرِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْقِيمَةَ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَهَا حُكْمُ الْعَيْنِ وَالْخِنْزِيرُ مِنْهَا، وَفِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لَيْسَ لَهَا هَذَا الْحُكْمُ وَالْخَمْرُ مِنْهَا، وَلِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْحِمَايَةِ وَالْمُسْلِمُ يَحْمِي خَمْرَ نَفْسِهِ لِلتَّخْلِيلِ فَكَذَا يَحْمِيهَا عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يَحْمِي خِنْزِيرَ نَفْسِهِ بَلْ يَجِبُ تَسْيِيبُهُ بِالْإِسْلَامِ فَكَذَا لَا يَحْمِيهِ عَلَى غَيْرِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (أَيْ مِنْ قِيمَتِهَا) فَسَّرَ بِهِ كَيْ لَا يَذْهَبَ الْوَهْمُ إلَى مَذْهَبِ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ عَيْنِ الْخَمْرِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ قِيمَتِهَا أَنْ يَرْجِعَ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ.
قولهُ: (تَبَعًا لِلْخَمْرِ) دُونَ الْعَكْسِ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ مَالِيَّةً لِأَنَّهَا قَبْلَ التَّخَمُّرِ مَالٌ وَبَعْدَهُ كَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ التَّخَلُّلِ وَلَيْسَ الْخِنْزِيرُ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا إذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَمَعَهُ حُمُرٌ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى لَا الْخِنْزِيرُ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ تَبَعًا لَا قَصْدًا كَوَقْفِ الْمَنْقول.
قولهُ: (إنَّ الْقِيمَةَ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَهَا حُكْمُ الْعَيْنِ) اُسْتُشْكِلَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى مَا فِي الشُّفْعَةِ مِنْ قولهِ: إذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ دَارًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَشَفِيعُهَا مُسْلِمٌ أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. ثَانِيهَا لَوْ أَتْلَفَ مُسْلِمٌ خِنْزِيرَ ذِمِّيٍّ ضَمِنَ قِيمَتَهُ. ثَالِثُهَا لَوْ أَخَذَ ذِمِّيٌّ قِيمَةَ خِنْزِيرِهِ مِنْ ذِمِّيٍّ وَقَضَى بِهَا دَيْنًا لِمُسْلِمٍ عَلَيْهِ طَابَ لِلْمُسْلِمِ ذَلِكَ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَخِيرِ بِأَنَّ اخْتِلَافَ السَّبَبِ كَاخْتِلَافِ الْعَيْنِ شَرْعًا، وَمِلْكُ الْمُسْلِمِ بِسَبَبٍ آخَرَ وَهُوَ قَبْضُهُ عَنْ الدَّيْنِ، وَعَمَّا قَبْلَهُ بِأَنَّ الْمَنْعَ لِسُقُوطِ الْمَالِيَّةِ فِي الْعَيْنِ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا لَا إلَيْهِمْ فَيَتَحَقَّقُ الْمَنْعُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا عِنْدَ الْقَبْضِ وَالْحِيَازَةِ لَا عِنْدَ دَفْعِهَا إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ تَكُونَ كَدَفْعِ عَيْنِهَا وَهُوَ تَبْعِيدٌ وَإِزَالَةٌ فَهُوَ كَتَسْيِيبِ الْخِنْزِيرِ وَالِانْتِفَاعِ بِالسِّرْقِينِ بِاسْتِهْلَاكِهِ.
قولهُ: (لَا يَحْمِيهِ عَلَى غَيْرِهِ) أَوْرَدَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ غَصْبَ خِنْزِيرِ ذِمِّيٍّ فَرَفَعَهُ إلَى الْقَاضِي يَأْمُرُهُ بِرَدِّهِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ حِمَايَةٌ عَلَى الْغَيْرِ أُجِيبَ بِتَخْصِيصِ الْإِطْلَاقِ: أَيْ لَا يَحْمِيهِ عَلَى غَيْرِهِ لِغَرَضٍ يَسْتَوْفِيهِ فَخَرَجَ حِمَايَةُ الْقَاضِي.

متن الهداية:
(وَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ بِمَالٍ فَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ شَيْءٌ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ مَا عَلَى الرَّجُلِ) لِمَا ذَكَرْنَا فِي السَّوَائِمِ (وَمَنْ مَرَّ عَلَى عَاشِرٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ مِائَةً أُخْرَى قَدْ حَالَ عَلَيْهَا لَمْ يُزَكِّ الَّتِي مَرَّ بِهَا) لِقِلَّتِهَا وَمَا فِي بَيْتِهِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ حِمَايَتِهِ (وَلَوْ مَرَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِضَاعَةً لَمْ يَعْشُرْهَا)؛ لِأَنَّهُ غَيْرَ مَأْذُونٍ بِأَدَاءِ زَكَاتِهِ. قَالَ: (وَكَذَا الْمُضَارَبَةُ) يَعْنِي إذَا مَرَّ الْمُضَارِبُ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقول أَوَّلًا يَعْشُرُهَا لِقُوَّةِ حَقِّ الْمُضَارِبِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ رَبُّ الْمَالِ نَهْيَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بَعْدَ مَا صَارَ عُرُوضًا فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قولهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْهُ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ يَبْلُغُ نَصِيبُهُ نِصَابًا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِقُوَّةِ حَقِّ الْمُضَارِبِ) حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ الْمَالِ فَصَارَ كَالْمَالِكِ فَكَانَ حُضُورُهُ كَحُضُورِ الْمَالِكِ.
قولهُ: (وَلَا نَائِبَ عَنْهُ) وَالزَّكَاةُ تَسْتَدْعِي نِيَّةَ مَنْ عَلَيْهِ وَهُوَ كَالْمِلْكِ فِي التَّصَرُّفِ الِاسْتِرْبَاحِيِّ لَا فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ، بِخِلَافِ حِصَّةِ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ عَنْهَا، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ بِطَرِيقِ الْجُعْلِ فَلَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ كَعِمَالَةِ عَامِلِ الصَّدَقَةِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ مَرَّ عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَشَرَهُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا أَدْرِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنْ هَذَا أَمْ لَا. وَقِيَاسُ قولهِ الثَّانِي فِي الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ قولهُمَا أَنَّهُ لَا يَعْشُرُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيمَا فِي يَدِهِ لِلْمَوْلَى وَلَهُ التَّصَرُّفُ فَصَارَ كَالْمُضَارِبِ. وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى فَكَانَ هُوَ الْمُحْتَاجَ إلَى الْحِمَايَةِ، وَالْمُضَارِبُ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ حَتَّى يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُحْتَاجَ. فَلَا يَكُونُ الرُّجُوعُ فِي الْمُضَارِبِ رُجُوعًا مِنْهُ فِي الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ مَعَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ إلَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ أَوْ لِلشُّغْلِ. قَالَ: (وَمَنْ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْخَوَارِجِ فِي أَرْضٍ قَدْ غَلَبُوا عَلَيْهَا فَعَشَرَهُ يُثَنَّى عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ) مَعْنَاهُ: إذَا مَرَّ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حَيْثُ إنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا) لَا يَخْفَى عَدَمُ تَأْثِيرِ هَذَا الْفَرْقِ، فَإِنَّ مَنَاطَ عَدَمِ الْأَخْذِ مِنْ الْمُضَارِبِ وَهُوَ الْقول الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ كَوْنُهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا نِيَّةَ حِينَئِذٍ، وَمُجَرَّدُ دُخُولِهِ فِي الْحِمَايَةِ لَا يُوجِبُ الْأَخْذَ إلَّا مَعَ وُجُودِ شُرُوطِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا مَرَّ أَوَّلَ الْبَابِ فَلَا أَثَرَ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْفَرْقِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْ الْمَأْذُونِ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْكَافِي.
قولهُ: (لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ فِيمَا فِي يَدِهِ) أَيْ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ الشُّغْلِ عَلَى قولهِمَا.
قولهُ: (لِأَنَّ التَّقْصِيرَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ إلَخْ) بِخِلَافِ مَا لَوْ غَلَبَ الْخَوَارِجُ عَلَى بَلْدَةٍ فَأَخَذُوا زَكَاةَ سَوَائِمِهِمْ لَا يُثَنِّي عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ مِنْ الْمَالِكِ بَلْ مِنْ الْإِمَامِ. وَمَنْ مَرَّ بِرِطَابٍ اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ كَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَعْشُرْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَعْشُرُهُ لِاتِّحَادِ الْجَامِعِ وَهُوَ حَاجَتُهُ إلَى الْحِمَايَةِ وَهُوَ يَقول: اتِّحَادُ الْجَامِعِ إنَّمَا يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ، وَهُوَ ثَابِتٌ هُنَا فَإِنَّهَا تَفْسُدُ بِالِاسْتِبْقَاءِ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْعَامِلِ فُقَرَاءُ فِي الْبَرِّ لِيَدْفَعَ لَهُمْ، فَإِذَا بَقِيَتْ لِيَجِدَهُمْ فَسَدَتْ فَيَفُوتُ الْمَقْصُودُ، فَلَوْ كَانُوا عِنْدَهُ أَوْ أَخَذَ لِيَصْرِفَ إلَى عِمَالَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ.